العبــور
قصة قصيرة
عبد الحفيظ بن جلولي- بشار /الجزائر.
بزغت الشمس ذلك اليوم وهو ما زال في فراشه يتململ، يشدّ الغطاء على وجهه تارة وتارة تنفلت منه البطانية فتتولى والدته إعادتها.
ظل كذلك إلى أن رنّ الهاتف، حاول عبثا تجاهل جرسه إلا أن يده أخيرا أذعنت لامتدادها المتثاقل رافعة السماعة إلى الأذن دون تركيز.
ـ آلو..
تسللت مغبورة وكأنّها تنبعث من عمق بئر، عبير كانت على السماعة تخبره أن الجرائد هذا الصباح تحمل أخبارا ثقافية دسمة.
أقفل الهاتف وقام متلهّفا، ارتدى ملابسه على عجل، سوّى أمام مرآة بطول قامته شكله المهندم في الفوضى، وازدرد في طريقه إلى الباب فنجان قهوة، كان الوحيد الذي ظل يُذكِّر بأن الزّمن ما زال صباحا.
في طريقه إلى "جمعية أصدقاء العالم"، وهي الهيئة التي كانت تجمعه وثلة من نشطاء مقاومة العولمة، اقتنى جريدة وراح يرتب العالم على منوال النوتة الموسيقية..
الجرائد ذاك الصباح كانت تراوح لونها الأحمر، لعل دم الأبرياء في غزّة غلب على حبرها الأسود.
إعلان وقف العدوان، لم يغيّر شيئا من موقفه، كاد أن ينفلت منه صراخا عنيفا، أفرغه في قبضة قوية هوى بها على الطاولة المستديرة.
الصفحة الثقافية كانت تتكلم عن افتتاح المركز الثقافي العربي بغرناطة.
ـ غرناطة.. غزة.. قصر الحمراء.. والدّم أحمر ومداد الكتب القديمة أحمر أيضا..
دكّ نظارته بقوة في عينيه وانصرف.
عرّج على مقهى "العبور"، ارتاح إلى طاولة في الرّكن الزجاجي ليتسنى له متابعة حركة الشارع الداكنة في لونها البنِّي، وراح يرتشف فنجان قهوة "معصور".
كلّ شيء كان يتحرّك إلى الخلف، أعاد نظارته إلى الخلف حمل جريدته ورحل إلى البيت.
اعتاد أن يتابع منظر الجرائد وهي تئن تحت وطء المسح، أحيانا تبلّل بالزّيت لتعيد لمع الأبنوس، وأحيانا تبلل بالماء لغسل زجاج النوافذ.
لزم كعادته مقعده من ذلك المكان الذي يباح له فيه خلع حذائه دون أن يقذفه في وجه أحد، ويمسك فيه تذكرة سفر إلى العالم دون جواز رسمي، يحتوي المكان على فراغ يملأه كرسي وطاولة وكتب وقصاصات جرائد وسرير متوحّش لشخص واحد، يأوي إليه لا ليسلمه إلى نوم هادئ ولكن ليرمي به في متاهات وساوس المخدّة اللعينة.
ارتمى على مكتبه يتصفح الجريدة، الخبر المهيمن غزة وغرناطة..
ـ غزّة.. غرناطة .. غ.. غ.. غ..
أخذ يحرّك الكرة الجغرافية على مكتبه ويعاين موقع غزّة وغرناطة، يتنقل بينهما إلى أن أوحى له الموقف بمقال، عَنْوَنَ له بالعبور.
آوى إلى فراشه، حاول عبثا أن يبعد الكوابيس، عاد طفلا كما كان يصف لأمّه في الصباح تلك الأشباح التي تتراقص أمام عينيه فيفزع ويجذب الغطاء على وجهه، لكنّها كانت تلقّنه البسملة والاستعاذة من الشيطان بالله الكريم..
لم يكن يخاف من الأشباح، لكنّه كان يكره الظلام الذي يعيقه عن الحركة، فكان يداري هذا الخوف بخوف تنطلي حيلته على الأم، لتضمّه إليها فيستلذ ذلك ويستسلم له.
بين المدينتين تتراشق أحجار آدمية، عبورها كان يتم عبر منجنيق عملاق دون حجّاج، لكنه كان يقنبل غزة ويعبر بالأجساد من غرناطة، احتج الحجاج وراح يتشكل على هيئة طير تخرج أجنحته بيضاء تسرّ العابرين إلى غزة، وتبسط ريشها حول الكعبة تصدّ قنابل المنجنيق، ثم تحوّلت إلى غزة، وراحت تحط على قبر بأعلى قمة في جبل عظيم، تمسح على لحده الذي تكشف عن اسم لطارق..
أخذ ينادي بشدّة:
ـ جبل طارق.. جبل طارق..
رأى الجموع تملأ غزّة عابرة من غرناطة تحمل شارات بيضاء..
كان الصباح قد أشرقت شمسه..
رنّ الهاتف، عبير تخبره أنّ الجرائد تحمل نبأ زيارة الملك خوان كارلوس إلى وهران.
في الصباح التالي كان يتنعّم بنسيم جبهة البحر، وهران الباهية، يعشق تلك المدينة المتوسطية.
في طريقه إلى التجمع الذي نُظِّم في المواقع التي قرّر الملك زيارتها، تساءل هامسا:
ـ هل جاء الملك خوان يسترد سرفانتس؟
انغطس في بسمة عريضة ومضى إلى وجهته..
غير بعيد كان المهرّج في قلعة "سانتا كروس" يسرد للأطفال حكاية "دون كيشوت الجزائري"،
وفي الموقع المحدّد كان الملك خوان كارلوس يدعو المثقفين إلى زيارة اسبانيا للحديث عن سرفانتس الذي عرفوه.