تلوسان
بقلم: جميلة طلباوي- بشار-
القصة القصيرة الفائزة بإحدى الجوائز الوطنية
مسابقة عبد الحميد بن هدوقة.
تلوسان* يا رملا أبيض في جبهة الأمس ، و بقايا شمس لا تموت ، تتوهج في دفاتر أيّامنا، و تسكب الريح صوتا أزليا يغني المجد التليد..من صهوة حلمك تنزل خالتي البتول إلى الجنان ، تلفح وجهها الأسمر خيوط شمس سافرة ، تتمرّغ السنون في تجاعيده و تبقي غصّة في صوتها المبحوح و هو يغنّي للسنابل و للحشائش:
زَرْعي ضاقتْ روحو و اهْلي بْغَاوْ يْروحو
هْناشي يا الحصّادة ،هْناشي يا امَّاليَه
تتهادى الحشائش بين يديها الخشنتين ،أتوسد ظلّ نخلة على تلّ الرمل المرتفع كغيمة أحنتها الشمس على حواشي الجنان، أرقب حركتها الحثيثة بين الشجيرات و الحشائش و الحيرة تتلفعّني، و قد أدركت ما أراد غطاء رأسها الأسود أن يخفيه من ذكريات ها هنا، كتمها سعف النّخيل و ابتلعها الوادي المتعطّش للمطر . جرت نحوها صغيرة كقطعة فلتت من الشمس أو كأنّها قُدّت من فرح، وقفت مشرقة ، متورّدة الخدين ، بهية المبسم ، تحمل إناء الماء بيديها الطرّيتين . ترنّحت خالتي البتول في مشيتها مثقلة بصبح لم يأتها بجديد. رنين أساورها الفضّية همس بشيء كان أقرب إلى العطش الذي حاولت عبثا إطفاءه بإناء من الماء، مسحت بيدها السمراء ثغرا لم يعد يحكي كثيرا ، الحكايا جمر في هذا المكان و إنّ من الجمر لما تتفتّق منه الكلمات .. رمت الخطى ثقيلة ، استعجلت رحيل شمس لا تنتمي إلى هذه السماء و هي تغادر الحقل ، تلملم عطر الجنان المتوسدة سفح الجبل الصخري من جهة ، متأمّلة ارتفاع كثيب الرمل من الجهة الأخرى ، تتبعها الصغيرة، و أتبعهما متعبة برمل تناثر في ذاكرتي، تحفظ كلّ ذرّة منه صوته حين وقف ذات خريف هنالك في ذلك المكان الفسيح بعباءته البيضاء، و مدّ يده ليشير بأصبعه إلى أطلال قلعة الملكة لالة تلوسان قاهرة السلطان لكحل..أخبرني يومها بأنّه سمّى ابنته الكبرى باسمها، و أنّه أقام لها مملكة من محبّة غمس الألم أصابعه في شهدها ، فتقاطر بمرارة لا تنتهي منذ قرّر حفر البئر ، و إعلان الثورة على عطش ينذر المكان بصيف ينهي بقايا الاخضرار ، و يفسح الطريق لرمل يكتسح كلّ شيء هنا.
تتهادى خالتي البتول أمامي في مشيتها ، تجرّ العباءة الحمراء ، تتناهى فيها النقاط السوداء في الصغر ، و تغازل الريح وشاحها الأسود الذي تدلى على كتفين عريضين يكشفان عن ضفيرتين طويلتين منحتهما الحنّاء لونا أحمر يغار منه الشفق .. كم أنت بهية يا نخلة عصية على الانكسار و يدك السمراء تُحكم قبضتها على يد الصغيرة و هي تمشي بنعلين من النايلون و قد أسدلت عباءتها القصيرة على سروال عريض ،و أسبلت ضفيرتين على ظهرها الملتفت إلى ماض قريب. تتطلّع إلى الطريق الممتدّ بعينين يشعّ منهما بريق الطمأنينة لحنان تنهله من جدّة لها صبر الجمال، تهمس لها بأنّ تلوسان هذه المرّة ستنجب ذكرا ،تبتسم الصغيرة ، يشعّ بريق من عينيها البنّيتين و قد أدركت بأنّ أمنيتها ستتحقق،أخيرا سيصبح لها أخ . تتمتم خالتي البتول : تلوسان كانت بخلخال. هكذا رأتها في المنام بخلخال، هي رؤيا لا تكذّبها، و الخلخال تقول عجائز القصر القديم بأنّه ذكر سيجلجل صيته في القبيلة .
تحثّ الخطى ، تتعثّر الصغيرة ، الطريق يبدو طويلا و المبروك يجري بعباءته البيضاء و سرواله العريض و الشاش الملتف على رأسه. يقف أمامنا يلهث ، يمدّ يدا معروقة يزيح الشاش عن وجهه، تبرز سمرته قلقة ، يشوبها ضباب، ترتجف شفتاه المتيبّستان و هو يروي لخالتي البتول صراعه مع الوقت بحثا عن سيارة تنقل تلوسان إلى المستوصف القريب ، على بعد ست كيلومترات... القرب هنا يتخذّ وجعا آخر... ألمح بقايا القلعة ، و أنا أسمع المبروك زوج تلوسان يقول بأنّها نزفت في طريقها الطويل إلى مستوصف صغير محروم من خدمات طبيب لن يأتي إلى هذا المكان المسكون بعطش الرمل، لكنّ الأمل كبير..تهتز خالتي البتول كنخلة عجوز، تصدر صوتا غريبا أقرب للنحيب، تلحّ عليه في طلب سيارة أخرى تقلّها لتكون إلى جانب ابنتها، يطمئنها المبروك ألا تقلق، و أن تعود للبيت ، الأمل لا زال قائما في إنقاذ حياة تلوسان و حياة جنينها..
هيه خالتي البتول، تذرفين الدمع في بيت الطين الواقف كجرح في بقايا قصر الطوب القديم ،المسكون بالعوز و الفاقة ،و أصوات الماضي الدافئ التي تقلع كلّ مساء في موكب نوراني نحو قمر يضيء ليلك في انتظار صبح آخر مثقل بالضياء ، الضياء نيران تحرق فراشات الرمل الكادحة يا أمّ تلوسان، يا لون القهر و العطش...تمشين في صحن الدار، أتبعك يلفح القلق خطانا ، نتوغّل أكثر في ظلمة المكان ، تفوح رائحة الطوب من الزوايا، تجلسين و أجلس بجانبك نفترش الماضي بأوجاعه ، للعرق رائحته الممزوجة ببركات يوم ظلّله النخيل و بوح الجنان ، يستوطن وشاحك ، تنزعينه، تضعينه على الأفرشة البالية ، تتكوّر الصغيرة على ركبتك كهرّة ، تأتيك صفية بصينية الشاي، أتحسّس بأذني الهزيلة طقطقة أساورك مرّة أخرى و أنت تصبّين الشاي ، أستحضر باقي الحكاية : عمّك بوبكر مات و هو يحفر البئر.
أبتلع ريقي ،أتذكّر أنّه الموعد الذي لم يخلفه أبدا ليشرب الشاي ، لعلّك خالتي البتول سمعت خفق نعليه في الزقاق ، لعلّك لمحت طيفه بين أبنية الطوب .. أستحضر صوته و هو يقول لي بأنّ العطش يتوعدّنا بغد تتكوّر شمسه أكثر ، تبعث القيح و الصديد في الحنايا..أمدّ يدي أستلم كأس الشاي من يدك ، أحتسيه فتعبق روائح النعناع في المكان ، لا تطرد روائح تزكم الأرواح تنبعث من جرح غائر في الذاكرة ، فقط تفسح لعيني مجالا للرؤية في عينيك المتطلّعتين إلى المدخل، لعلّ عمّي بوبكر تعتقه البئر و يعود . ألمح تلك الدهاليز التي تؤدي إلى بقايا قلعة قالوا بأنّها قهرت قوة عاتية، و أبقت لنا مجدا يستوطن الرمال. يهتزّ الباب أكثر ،يُفتح ، يحدث أزيزه رعشة في أبداننا، تهلع خالتي البتول ، يندلق كأس الشاي من يدها، تنتصب نخلة متصدّع جدعها ، تتيه نظراتها ، يدخل المبروك بسحنة رمادية ، يحمل الشاش في يده، يقف العرق ملحا متحجرا في وجهه و أطرافه..أيّ نبأ تحمله يا المبروك ؟
الخبر بهول الفاجعة، تلوسان طواها ليل الصمت و طوى معها جنينا كان سيجلجل كخلخال...لا طبيب في المستوصف ، نزفت تلوسان حتى الموت...كان نحيب خالتي البتول امتدادا لصحراء عطشى لماء ابتلعه البئر، و تلوسان واراها تراب فيه بقايا قلعة تصدح الريح بين أطلالها بأغنيات المجد التليد، يا وجع تلوسان..
-----------------------
*تلوسان اسم ملكة عاشت بمدينة تاغيت بالجنوب الغربي الجزائري