نماذج من قصص المبدع
بنجلولي عبدالحفيظ
خرير الرّماد
الأشياء تتبدّى كما فقاعات يمخر فراعها الهواء فتتلاشى ويندثر رسمها..
السراب يترافص من بعيد.
يجثم فوق الريح متأملا حركة الارض من على الأرض، يخشى أن يلوث التراب رؤاه ومسافاته الفاصلة بين حدود قراباته، يحادث نفسه، ينحت فكرة ويصوغ العالم الذي يريده في أسطورية جميلة، ولا يرى البشر الآخرون سوى أسرابا تملأ فراغاته، يعبر على عالمه المكتظ بالحلم والخسارات، يمشي فوق الماء، يتسرب الجفاف إلى قدميه، يشتعل هرولة نحو الحنفية التي تلد الريح، تجري الجداول هبوبا عاصفا، يجف حلقه، يتصبب عرقه، ولا يجد سوى الريح الذي يجثم فوق صفيره، هي المداخل الأخرى لموسم الإرتجاج.
تمتد عينيه المباحتين للسراب إلى ما بين أصابعه، يفرج ما بينها فإذا بشقوق كما الأخاديد الصغيرة وجلد يفوح رائحة تزكم أنفه.
كان يجلس فوق حوض لتخزين المياه، تمّ حفره أيام ندرة هذه الأخيرة وانقطاعاتها المتكررة، وبعد ان حلت المشكلة جزئيا تمت تهيئته بحيث تسيل به الحنفية ثم يضخ الماء لإلى خزان حديدي ركب فوق سطح البيت.
جدّ متعب أن تقوم كالعاس تعد نجوم الليل، تنتظر هذا القادم من بعيد أنفاق ضيقة تحت تراب المدينة يتغذى من خزانات على سفوح عاليات.
منتصف الليل، يختلط الشخير، يتوزع بين الإستفاقة والنوم والتلصص، لاستبانة مصدر الصوت. الشخير القوي يقض مضجعه، يقوم كما مصاب بالإستفاقة النومية، يمشي نائما إلى وجهة واحدة وحيدة، إلى صاحبة الجلالة الحنفية، يصل بها الأنبوب البلاستيكي، يتحسس وصول الاء الى الخزان ثم ينتظر حتى الإطمئنان على ان كل شيء على ما يرام، لكنها اللحظة ذاتها التي يتسرب إليه فيها الهوس والقلق لأن نفس السناريو سوف يعاد وتتكرر المشكلة، ولا مشكلة عند من له القدرة على مضمضة فيه بماء معدني لاننا نتكفل برسكلة البقايا واستعمالها في تخزين مياه الشرب.
يستبد به الحزن أن يستفيق والناس نيام، لا لينال مكرمة رب الانام ولكن ليملأ فراغ النيلون وآنية الحديد المستعصية على الذوبان.
يزداد الشخير كانه يناديه بالإسم، الأضواء ليست دليلا على استفاقة الآخرين، فأصوات المضخّات وقرقعة الأواني كانت البرهان القاطع على بعث النّمل البشري.
يسد الأنابيب، يصلها بالحنفية، تدفع الهواء كأنه حشرجات صدر تصاعد ساعة احتضار، يندلق الماء في بخّات متقطعة كأنها تعترض على ميقات ضخها.
يشرف على عملية الغسقاء، يجلب الانبوب من هنا إلى هناك، يسيح الماء على البلاط، يطقطق نعله الغسفنجي، يلتصق بالأرضية العائمة في عملية مص عنيفة لا يستطيع معها نقل رجليه في مشي منتظم، يفقد توازنه ليتهاوى ساقطا اثر انزلاق حاد في مشهد أشبه بضربة المقص في طرة القدم.
يختنق غيظا، يسب بكل اللغات، يلعن لحظته المختزلة في انبوب وحنفية وماء متقطع، يرمي يثيابه المبللة ويرتدي عباءته الفضفاضة التي لم يكن يملك غيرها، بمجرد أن يجتاز فورة الغضب يعود على حياضه مستغفرا الله رب العالمين.
يقترب من زوجته التي تغط في نوم عميق، يتحرج من إنهاضها من شدة ما تعانيه من تعب الاشغال المنزلية وما تتحمله من رهق في سبيل إرضاء كل افراد العائلة.
يجدب فوقها الغطاء ببطء، يوجه موزع مكيف الهواء نحو السقف، يطفئ النوّاسة ويسحب باب الغرفة برفق لينقذف إلى مصيره وكله أمل في وعود من جهات وصية لحل مشكل الماء وفض العقدة نهائيا عله يستريح يوما ما ويأوي إلى حلم لذيذ.
تتقاسمه الجهات، المواعين، خزان الماء، سقي الجنينة وملء مكيف الهواء المائي.
آخر انفاسه تنداح مع انفاس الفجر الأولى، الأذان يهلل مع ىخر دفقات الماء، يمسح تعبه بوضوء سماوي ويسبح في صلاة مجيدة، بعدها يسرق سنة نوم ليستفيق مع صبح جديد يعاود معه أصداء الكبد اليومي.
الصيف يداهم المدينة الجنوبية، القيظ ينبعث من بين كثبانها، تتشقق الارض وتلفح روادها، تكتوي الأرجل، فمن هرب فهو آمن !!
ومن تكيف بـ "LG" فهو آمن !!
ومن دخل فيلاّ فهو آمن !!
.ومن انتفخت رجلاه وقبع مكانه فليمدوا أنبوبا بلاستيكيا وماعونا ليتودد إلى ظهيرة الأيام الحبلى بالشمس، المتربعة عرش الكبد وأوراق انحنت والتوت وذبل بعضها.
بعضنا يحزم حقائبه استعدادا لموسم الهجرة إلى الشمال. هل هو شمال "الطيب صالح"؟ أم شمال البحر الذي تتقدمه جبهة البحر بنسيمها الذي تتعشقه جموع الأسراب الهاربة؟ السكون والشمس رابضة فوق الرؤوس والكل يتماهى في حيويته المتناقضة عبر صباح شهي في كنف نسمة صيفية من بقايا فجر غابر.
ينتفض صباحا، يلتوي، يستقيم، يتدحرج في متاهات المدينة الشّبح، القيلولة، إغراءات الوقت الضائع حين يأوي إلى جنح "الإروال".. قرص الشمس الحارق يجري خلف لهثه إلى الظل، يشتعل رأسه، يغلي، يضع يده فوقه علها تمنع فليلا من جبروت الأشعة، لكنها تخترق من غير استئذان جمجمته.
السراب يملأ المدينة، حتى إذا وقفت عنده لم تجد سوى بقايا انابيب صدئة أغرته فتشبّه ماء..
يدلف إلى البيت، تنزلق عباءته فوق جسده النحيف طواعية، يتفضفض في فراغها كما عصفور أهمل وجهته لحظة الظهيرة، يخرج مسرعا متلهفا لاقتاناء زجاجات ليمونادا، المشروب الذي أصبح ينافس الماء بل ويهدده بالمقاطعة، فالزمن زمن المقاطعة.
ـ ولو كان الماء أمريكيا لقاطعناه..
هكذا ينتفض صديقه وهما يحتسيان القهوة، ثم يرد عليه مازحا:
ـ ولو كان القمح أمريكيا !!!
يبتلع مرارته وينسجمان في ضحك طفولي لعلهما ينسيان..
دماغه لا تحتمل ثقل الرزايا، الغليان تزيد حدّته، يهرول في شوارع المدينة، يمدّ خطوطا هندسية أخرى في ترابها لعلها تغير من شكلها..
العبــور
بزغت الشمس ذلك اليوم وهو ما زال في فراشه يتململ، يشدّ الغطاء على وجهه تارة وتارة تنفلت منه البطانية فتتولى والدته إعادتها.
ظل كذلك إلى أن رنّ الهاتف، حاول عبثا تجاهل جرسه إلا أن يده أخيرا أذعنت لامتدادها المتثاقل رافعة السماعة إلى الأذن دون تركيز.
ـ آلو..
تسللت مغبورة وكأنّها تنبعث من عمق بئر، عبير كانت على السماعة تخبره أن الجرائد هذا الصباح تحمل أخبارا ثقافية دسمة.
اقفل الهاتف وقام متلهفا، ارتدى ملابسه على عجل، سوّى أمام مرآة بطول قامته شكله المهندم في الفوضى، وازدرد في طريقه إلى الباب فنجان قهوة، كان الوحيد الذي ظل يُذكِّر بان الزمن ما زال صباحا.
في طريقه إلى "جمعية أصدقاء العالم"، وهي الهيئة التي كانت تجمعه وثلة من نشطاء مقاومة العولمة، اقتنى جريدة وراح يرتب العالم على منوال النوتة الموسيقية..
الجرائد ذلك الصباح كانت تراوح لونها الأحمر، لعل دم الأبرياء في غزة غلب على حبرها الأسود.
إعلان وقف العدوان، لم يغيّر شيئا من موقفه، كاد أن ينفلت منه صراخا عنيفا، أفرغه في قبضة قوية هوى بها على الطاولة المستديرة.
الصفحة الثقافية كانت تتكلم عن افتتاح المركز الثقافي العربي بغرناطة.
ـ غرناطة.. غزة.. قصر الحمراء.. والدم احمر ومداد الكتب القديمة احمر أيضا..
دك نظارته بقوة في عينيه وانصرف.
عرّج على مقهى "العبور"، ارتشف فنجانا مُركّزا بينما ارتاح إلى طاولة في الركن الزجاجي ليتسنى له متابعة حركة الشارع الداكنة في لونها البنِّي.
كل شيء كان يتحرك إلى الخلف، أعاد نظارته إلى الخلف حمل جريدته ورحل إلى البيت.
اعتاد أن يتابع منظر الجرائد وهي تئن تحت وطء المسح، أحيانا تبلل بالزيت لتعيد لمع الأبنوس، وأحيانا تبلل بالماء لغسل زجاج النوافذ.
لزم كعادته مقعده من ذلك المكان الذي يباح له فيه خلع حذائه دون أن يقذفه في وجه احد، ويمسك فيه تذكرة سفر إلى العالم دون جواز رسمي، يحتوي المكان على فراغ يملاه كرسي وطاولة وكتب وقصاصات جرائد وسرير متوحش لشخص واحد، يأوي إليه لا ليسلمه إلى نوم هادئ ولكن ليرمي به في متاهات وساوس المخدة اللعينة.
ارتمى على مكتبه يتصفح الجريدة، الخبر المهيمن غزة وغرناطة..
ـ غزة.. غرناطة .. غ.. غ.. غ..
اخذ يحرك الكرة الجغرافية على مكتبه ويعاين موقع غزة وغرناطة، يتنقل بينهما إلى أن أوحى له الموقف بمقال، عَنْوَنَ له بالعبور.
آوى إلى فراشه، حاول عبثا أن يبعد الكوابيس، عاد طفلا كما كان يصف لأمه في الصباح تلك الأشباح التي تتراقص أمام عينيه فيفزع ويجذب الغطاء على وجهه، لكنها كانت تلقنه البسملة والاستعاذة من الشيطان..
لم يكن يخاف من الأشباح، لكنه كان يكره الظلام الذي يعيقه عن الحركة، فكان يداري هذا الخوف بخوف تنطلي حيلته على الأم، لتضمه إليها فيستلذ ذلك ويستسلم له.
بين المدينتين تتراشق أحجار آدمية، عبورها كان يتم عبر منجنيق عملاق دون حجّاج، لكنه كان يقنبل غزة ويعبر بالأجساد من غرناطة، احتج الحجاج وراح يتشكل على هيئة طير تخرج أجنحته بيضاء تسر العابرين إلى غزة، وتبسط ريشها حول الكعبة تصد قنابل المنجنيق، ثم تحولت إلى غزة، وراحت تحط على قبر بأعلى قمة في جبل عظيم، تمسح على لحده الذي تكشف عن اسم لطارق..
اخذ ينادي بشدة:
ـ جبل طارق.. جبل طارق..
رأى الجموع تملأ غزة عابرة من غرناطة تحمل شارات بيضاء..
كان الصباح قد أشرقت شمسه..
رنّ الهاتف، عبير تخبره أن الجرائد تحمل نبأ زيارة الملك خوان كارلوس إلى وهران.
في الصباح التالي كان يتنعم بنسيم جبهة البحر، وهران الباهية، يعشق تلك المدينة المتوسطية.
في طريقه إلى التجمع الذي نُظِّم في المواقع التي قرر الملك زيارتها، تساءل هامسا:
ـ هل جاء الملك خوان يسترد سرفانتس؟
انغطس في بسمة عريضة ومضى إلى وجهته..
غير بعيد كان المهرّج في قلعة "سانتا كروس" يسرد للأطفال حكاية "دون كيشوت الجزائري"،
وفي الموقع المحدد كان الملك خوان كارلوس يدعو المثقفين إلى زيارة اسبانيا للحديث عن سرفانتس الذي عرفوه.
أمسية للصّيف
حين تطلّع إلى السّماء، كان العلم الوطني ترفعه عاليا طائرة سياحية صغيرة، وكانت ازرقاق الأفق يشغل ذلك العصفور الذي راح يبحث عن عشّه الذي يختلف لونه عن لون السّماء.. هكذا خمّن خالد في حال العصفور ، وراح يتأمل تلك اللحظة التي جمعت العصفور الضال إلى العلم الوطني المحلّق، وتساءل إذا كان فعلا الطائر قد ضلّ عشّه؟ كانت بجانبه مدرسة الحرية توزّع على التلاميذ الأعلام الوطنية للإحتفال بالفاتح من نوفمبر، ولمّا عبروا شارع لطفي في صف أنيق مزركش الألوان بزعق الطفولة وفرحها العفوي، أعاد في ذهنه ترتيب المعادلة من جديد، أطفال وأعلام وسماء وأرض، وراح يسرّب في هدوء هذه المعادلة إلى أن راح يرددها بصوت مسموع جدب إليه انتباه المارّة، حيث راح جميعهم يدندن: أغنية نورة القديمة:
جاني بشار لباب الدار،،
من عند اللي
هو عزيز عليّ..
تدانى ستار الليل فوق المدينة المترعة بالفرح، وراح الأطفال إلى مراقدهم يطاردون نومة تمنحهم حلم جميل، وتدلّى خالد من فوق حلمه يرسم صورة لعصفور ضلّ طريقه إلى عشّه وسار خلف هرج الأطفال..
هل مات؟
في كل رنّة هاتف كان يردّد نفس السّؤال، لكن ما لم يكن في حسبانه آن رنّات الهاتف كانت من جهات مختلفة، وعندما فرش الضياء أولى نسائمه، وجد جدران الحي تعلن عبر كتابات مختلفة أنّ الوحيد الذي نجا من موت أكيد هو صاحب النقّال المسروق؟ بحث في أشيائه، وجد في جيب سترته الداخلي أوراقا كان قد حمّلها هواجسه حول ما يحدث.. الأطفال يولدون حين نؤبّنهم بأحلامنا الميّتة..
الجميع في المدينة يعلم أنّ الأطفال هم الأحياء الوحيدون في ملاءاتهم البيضاء..
السكَّر...
وهو يضع صباحا رجله اليمنى خارج البيت، كان مسبقا يفكر في الطابور أمام فرن الحي، جمع شواله الصغير واجتاز الشارع المؤدي رأسا إلى الخباز، ثم راح يفكر في كيفية يستصيغ بها وقوفه الذي يطول، فالمخابز في عطلة بمناسبة عيد الفطر، أخذ موقعه من الطابور وراح يستمع إلى ما تهذي به غليانات أفراد يشاركونه الضجر من انتظار خبزة قد تتعطل في طريقها على أفواه جائعة.
ـ لقد قالوا بأن السكر سوف يشهد انخفاضا في السعر..
أشك في ذلك لأن الزلابية تشرب نصف الكمية..
كان القابع فوق غضبه يردد:
ـ يجوع شهر الصيام ولا يفرّط في السكر...
خيوط بلا مطر
كانت" أخبار الأدب" بين يديّ ترتعش رعشة غريبة، أحسست بهما تتمايلان معها، رفعت عينيّ في النّافذة و إذا بالهطول..، أشعركم تضحكون وتتغامزون،
ـ أيقال لهبوب الرّيح هطول..
ـ خاب ظنّكم ، نعم أقصد هطول المطر، ألا تمطر السّماء إلا بـالضفاف الشمالية...
سامحكم الله، ألنا العواصف الرّملية و لكم الشطآن الذهبية؟
عدت الى "أخبار الأدب"، خلت للحظة أنها تميمة فرعونية، أفْرَغَت أسرارها في صفو سمانا، استغفرت الله في سرّي و قلت ليس للفرعون نوء، النّوء نوء الله..
ليلة البارحة، عرس التّراب الظمىء، أغْدَقت السّماء من شهد رضابها عليه، فإذا به يتوه نشوانا غانِما حُلّة الطين، لكن مع إطلالات الصّباح الأولى كانت غواية اللون السّحري تتبخّر مبحرة في صداقات الغبار الأليف..
الأشياء ليست كما معتاد صباحاتها، بقع الماء الرّاكضة هنا وهناك، تزغرد في وجه المارّة، وتغازل حلق التّراب الصّدىء.
تأخّر الباص عن موعده هذا الصباح، انتظرت قليلا ومعصمي يزاحم الأشياء في استيلائها على بصري، الثامنة، الثامنة وخمس دقائق، وعشر دقائق، وعشرين والنصف ..
ـ صباح يستجدي قزعات غيم ترقص على وقع بقايا هبوبٍ باردٍ لليلة ماطرة، و حافلة تمارس تأخّرها المعتاد.. هكذا همست في أعمق خاطري.. .
تخللت حيرتي نظرات مشبوهة كنت أرصدها في أعين المارّة الذين استَغْرَبْتُ عبورهم الماشي، المتجاوز موقف الحافلة..
منفرد أصارع حيرتي إلى أن نبّهني أحدهم في حنق تداريه دعابة استهزاء،
ـ مضى على اضرابهم عشر أيام متتالية، يظهر إنك ...
يظهر إني لست من رواد المدينة...مدينتي في..
خشيت أن تجعلوا مدينتي في الفضاء .. عفوا.. مملكتي من أخمص البذرة إلى أعلى السنبلة ولا أجني من لونها الذهبي سوى الحروف المُجَمِّلة للكلمة.. بصراحة لا أجني سوى كلمات لا تسمن ولا..، أدري..
ـ كلكم أتممتم الجملة، تعرفونها كما تعرفون أبناءكم ..
ـ ألا ترون أنكم اقتحمتم عليّ خلوة النص ، تشاركونني أحداثه.. عفوا أقصد خلوة المملكة .. إليّ يا من أتعبتكم السنبلة..
تضحك السنبلة ملء فيها، تنفض هي الأخرى قطيرات المطر العالقة فوق حبّاتها، لا تنتظر الحافلة ولا تعبأ بنظرات المارّة، إلا أنّها تنحني ..
الغريب أنّ المارّة لا يتساءلون عن سبب انحناءها!!
ركبت خطواتي المشدوهة بغزوة المطر، وصرت أتَمَلى الأجواء الرمادية الشفافة، أخذني سحر الغيم المكثف المتحرك كتلا متفرقة، واستراق السّماء بسمات محتشمة من خلال فجوات زرقاء منفلتة من ثقل الغيم، وبين الخطوة والأخرى ترشّني زخّات هاربة يتلاعب بمسارها هبوب رقيق، تتكدّس فوق نظارتي، أنزعها، أتفقد المَسّاحة،
ـ نسيتها، عليها اللعنة..
فكَكْت أزرار سترتي المذبابة ( (mouchetéعوّضت المَسَّاحة بإزلاق يدي تحت زَرَدِي مشكلا كمّاشة فكيها بنان الإبهام والأصابع، ثم أمعنت مسحا في زجاج نظارتي .
في بداية الشارع على الجانب الأيمن كانت نافذة البيت الأوّل في الطابق الأرضي ترمقني خلف مربعاتها، تشير إليّ بما تنغلق عليه جدرانها، المكتب والرّفوف والحاسوب، لعلها لا تريد أن تُفوِّت ما كان يحفّني به صاحب أكبر قبّعة لتتويج المبدعين، بالطبع قبّعتي متواضعة، لا تكاد تظهر، لكنّه دوما يجعلها كبيرة ينسجها من سعف النّخيل وأحيانا يصنعها تاجا مرصّعا بتمر الواحات الشرقية..
ـ آه.. لقد أصابني الدّوخان!!
لعلّكم في شوق إلى معرفة رفيقي... يبدو أن الشارع أصابه "ما يشبه الوحم"، وأراكم تترغبون "السّيمة"، وأرى أنه كلما أتى النص جريا جاءه هروولة..
ــ ما باله يهلوس ؟ ما باله يجمع بين ما لا يجمع؟
ـ ابحثوا عن صديقي..
كانت خطواتي المتعبات بالتعثر في غياهب الذاكرة تحثني على اجتياز الشارع بسرعة، قطرة المطر أحسستها في تلك اللحظة ساخنة على غير العادة،
ـ ما بال السّماء؟
عندما رفعت رأسي لأستبين الأمر، كان مجرى رقيقا يمارس لعبة الحنين فوق خداي.
سرت استنشق الهواء على علاته مفعما بزيارة صاحب الغبطة المطر، فجأة رجف جيبي كأنّ به جان، ولّيت مذعورا كفأر مرتاع يفرّ من هِرٍّ شجاع، كالطائف، طاف بي، هتف في سمعي،
ـ مدّ يدك ولا تخف..
حينها تذكرت أنه مجرد النقال، أخذتني رغبة جامحة في استذكار التنبيه المعلق عند أبواب المساجد "اقطع صلتك بالمخلوق واتصل بالخالق "، لكن الإعلان الراقد على واجهة المتجر الكبير، صفع وجهي بالدعوة الى الاتصال فورا من أي محمول على الرقم التالي (....) للفوز بمطبخ طلياني.. وذلك قبل الأجل المحدد .
ظغطت على الزّر،
ـ آلو.. عبد الصمد، صباحك مطر وقطيرات ندى تجعل فجرك صلاة وورد بديع وأيامك كلها ربيع..
ـ( مقهقها) اعلم أنكم تغلبوننا كلاما ليس كالكلام.. قلت لا يمكن أن تفوتك هذه اللحظات، انتظرك بالمقهى ..
شاي أو فنجان معصور، ليمونادا أو عصير ليمون، طبعا دون شيشة لكن مع كثير من التدخين، سحاب، الأكيد دون مطر، يمنعك من تهجّي المكان فضلا عن أن تأخذ نفسا أو تريح صدرك من زحمة سعلة منقضّة..
كانت خيوط المطر تعاود ارتخاءها في سَمِّ البشر والأرض، أخذتني انتشاءة، هربت مع آخر شفطة و تمنّيت أن تعيد خيوط المطر زَرد أوّل" فيشاوي" في عصر القهاوي.
ظّللت استرق النظر مستديرا إلى النافذة المنزوية في وحدتها عند أول الشارع، بدا لي أنها تبتسم وتلوّح بمربعاتها الزجاجية، رفعت يديّ، مسّدت على شعري، أدرَكَت النافذة هَبَلي، أسبلت ستائرها وارتاحت إلى سكونها الحزين..
عند استدارتي، كانت عجلة السيارة الناهبة زفت الطريق نهبا جنونيا على وقع آخر صيحات "الرّاب"، تفرمل بحِدَّة عند أطراف أصابع رجلي اليمنى، نَدَّت منّي صيحة، مال جسمي إلى الخلف لولا أن عناية الله مدّت إلى كتفيّ رَاحتَيْ أحد المارّة، فأمسكَتْني مانعة إياي السقوط ..
استبد الغضب بالمارة، اقلع الغيم عن مدّنا بالقطر، انتصبت الشمس معلنة جلاء فتنة الهطول، حبس الحنق دمعة كنت استجديها، فبارزتني المقلة بجفوة شهباء.. ومضى السائق في نشوة..
ما إن خَطَت جثتي عتبة البيت، حتى أسرع ابني يتلعثم في شقوة البراءة،
ــ أبي.. " عُمْرَكْ ما شُفْتْ هذه الأغنية ؟"
ــ أسْمِعْني يا حبيبي.
ــ حْنَا أصحاب الرّاب / نْشَرْبوا الشْرَاب / ناكلوا التراب...
ــ " إنها كانت تمطر إنها لم تكن تمطر "*...
....................................
*ـ بيكيت ، نهاية "مالوي" .